في فيلم "بطريرك الشعب".. البطريرك ميشيل صباح ينير للأجيال طريق التعايش بمحبة

الكاتب : عزيز العصا - معهد القدس للدراسات والأبحاث/ جامعة القدس

القيامة - في شهر كانون الأول من العام 2020، كنا على موعد مع فيلم وثائقي يوثّق للبطريرك الفلسطيني "ميشيل صباح"، وكنا ننتظره بشغف، فسرّ خاطرنا حينما اجتمع في هذا الفيلم الماضي بالحاضر، واستُشرف المستقبل الواعد؛ إن أحسنّا التعامل مع الأحداث، هذا ما يقوله الكاتب في مقدمة مقاله، الذي ارتأينا نشره مجددا نظرا لفائدته.

في فيلم "بطريرك الشعب".. البطريرك ميشيل صباح ينير للأجيال طريق التعايش بمحبة

ولم يكن هذا ليتم لولا اجتمع المبدعون الفلسطينيون؛ بدءًا بمبادرة شخصية تطورت إلى مبادرة عامّة: د. ليلي حبش، التي كرّست في هذا الفيلم قدراتها وإمكاناتها الفكريّة والمعرفية والمهنية، وخبراتها الأكاديمية التي استقتها من عدد من الجامعات من مختلف دول العالم ومن خلال عملها في الأمم المتحدة، أضف على ذلك حالة الإسناد والدعم والأفكار الخلّاقة التي قام بهد د. كريم هلال؛ ابن بيت ساحور الطبيب الاستشاري في أمراض الكلى الشهير في اليونان. والمخرج "محمد العطّار"؛ صانع أفلام وثائقية، وباحث في الأرشيف البصري والإعلام، ركز في أعماله على إعادة الرواية السردية الفلسطينية للجمهور الغربي.

يبدأ الفيلم بخلفية تظهر مقطعًا من جدار تعلوه أسلاك شائكة، وهناك صوت يوجز واقع الشعب الفلسطيني، الذي يمر الشعب الفلسطيني في منعطف خطير؛ فغزة تخنق بالحصار، والضفة تمزق بالجدران والاستيطان، والقدس صعبة المنال.

منذ اللحظة الأولى لتعيينه بطريركًا، في أجواء الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، وضع البطريرك "ميشيل صباح" نصب عينيه، مساعدة الناس؛ فالشعب الفلسطيني كان في ضيق تحت حصار فرضه الاحتلال عليهم، في محاولة لكبح جماح الانتفاضة الشعبية التي قام بها هذا الشعب لرفع وطأة الظلم والطغيان عن كاهله، بعد عشرين عامًا من الاحتلال –في ذلك الحين.

يروي البطريرك "صبّاح": توجهنا البطاركة الثلاث قابلنا الحاكم العسكري الإسرائيلي قال لنا لا يمكن أن تذهبوا إلى بيت ساحور؛ لا يسمح لكم بالدخول. وكانت الصحافة تتابع الأمور، فوجه لنا سؤال عن الانتفاضة، فأجبت: إن الشعب له حق المطالبة بحريته، والشعب على حق في هذه الانتفاضة.   

لقد سلط الفيلم الضوء على حياة البطريرك صباح وأفكاره وقناعاته ورؤاه فيما يجري على أرض فلسطين من أحداث. وعالج المخرج، بمستوى عالٍ من الفنّ والإبداع، باختياره الصورة والصوت بدقة وعناية، لتشكّل خلفيّات منسجمة مع الموضوع المطروح؛ حتى تتكامل المعلومة لدى المشاهد، مما جعل الفيلم فيلمًا تعليميًّا بامتياز، وليس مجرد إبداع صحفيّ. فعلى خلفية جدار وأسلاك شائكة، وأصوات أجراس الكنيسة وترانيم المصلين، يطل البطريرك "صبّاح"؛ بهدوئه المعهود، كرجل دين مسيحي ومسؤول عن رعيته، وعلى قاعدة إيمانية راسخة، أنه مع الشعب الفلسطيني المظلوم؛ لإيمانه بكرامة كل إنسان مظلوم". وسنتناول، فيما يأتي، وبتصرّف، الدروس المستقاة مما تحدث به "بطريرك الشعب"، والذي كان على مرحلتين:

 يقف البطريرك "صبّاح" صامتًا في كنيسته ويرنو إلى القدس بديانتيها المسيحية والإسلامية، حيث تظهر منطقة المسجد الأقصى المبارك، بما فيه بوضوح، ويجعل المخرج الصليب داخل الكنيسة يتعانق مع قبة الصخرة المشرفة. ويصاحب هذه المشاهد، التي دارت فيها الكاميرا على القدس، صوت يصدح (كأنه تسجيل لصوت البطريرك يناجي الله)، يقول: في القدس مدينتنا ومدينتك المقدسة ما زالت الخطايا تملؤها، والحرب، والموت والكراهية.. اللهم بدل كل هذا وأعد القداسة إلى مدينتك وأملأها بحبك.. آمين! 

وبشأن معضلة هجرة المسيحيين عن أرض فلسطين، وتشتتهم في أصقاع المعمورة، وما نجم عنه من انخفاض نسبتهم وضعف حضورهم الديمغرافي في وطنهم الأصلي، يناقش البطريرك "صبّاح" الظاهرة بوجهة نظر متزنة، وغير متشنجة، وعلى المستوى الوطنيّ العام، يذكّرنا البطريرك صبّاح بالخدعة التي وقعنا بها في اتفاقية أوسلو، التي اعتبرها اتفاقية دولية، عندما عاد ياسر عرفات إلى أرض الوطن (عام 1994)، ثم تطورت الأمور؛ فلا إسرائيل احترمت الاتفاقية، ولا الدول احترمت عهودها، ففرضوا عليه الحصار وعزلوه. وتوجه إلى ياسر عرفات معاتبًا بمرارة وألم: "الله يسهل عليه كان يجب أن يدخل رئيس دولة وليس رئيس منظمة تحت أوامر إسرائيل، هذه هي الغلطة الأساسية من شغلة (اتفاقية) أوسلو".

ويوجز البطريرك "صبّاح" واقعنا الحالي بأقل الكلمات، بقوله: "الآن، العالم كله متفق علينا مع إسرائيل".

المرحلة الثانية- كيف الخلاص:

يتوقف البطريرك "صبّاح" أمام سؤال استراتيجي: أمام الموت الماثل أمامنا، كيف يمكننا أن نخلص أنفسنا؟ ويدعو غبطته إلى أن نقوم بمناقشة عامة، ووفق منهج تفكير شامل ومفتوح، للبحث في الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحالة؛ إذ قيل لنا: لا حق لكم في الوجود، والذي قاله لنا هم حكام الأرض اليوم؛ أمريكا وإسرائيل. وفي إجابته على هذا السؤال، التي جاءت بعد تجربة تراكمية عمرها سبعون سنة، يحدد البطريرك "صبّاح" مجموعة من الأسس والمرتكزات التي علينا الاهتداء و/أو القيام بها، وهي:

لقد عشنا هذه الدقائق الجميلة مع حالة الإعداد والاستعداد ومنهجية العمل المتقنة التي قامت بها د. ليلي حبش وزوجها صديقي منذ الثانوية العامة "د. كريم هلال". وحالة الإبداع التصويري المدهش والإخراج الذي يعبر عن وعي سياسيّ عميق، وعن فهم دقيق للمراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية. فالإبداع السينمائي الفلسطيني لم يتأخر كثيرًا عن الحالة الأوروبية؛ إذ أنه ظهر منذ أوائل القرن العشرين، من خلال الأخوين البيت لحمييين: "إبراهيم عبد الله الأعمى (1904-1953) وشقيقه بدر (1907-1947)"، أسسا "ستوديو لاما" للأفلام السينمائية عام 1927م، وأنتجا من خلال هذا الاستوديو (26) فيلمًا خلال الفترة (1927-1951). وبالتالي، فإن إبداع المخرج "محمد العطار" في هذا الفيلم يعانق الإبداع التاريخي للأخوين لاما. ما يجعلنا كشعب فلسطيني نزهو بحضارتنا التي بنيناها على هذه الأرض، وقد ولدت هويتنا الوطنية التي هاجمها الغزاة، كما يشير "بطريرك الشعب" في سرديته أعلاه.

بقي القول، بأن المخرج تمكّن من هذا الفيلم الوثائقي القصير من التوثيق لمراحل القضية الفلسطينية كافة؛ فالنكبة حضرت بمشاهدها المختلفة التي أصابت حضارة شعبنا وهويته في مقتل، وخدعة أوسلو التي انتهت باغتيال القائد ياسر عرفات حضرت بوضوح من خلال التجوال في المطار الذي أنشأه في غزة ومن خلال متحفه الذي يحتوي أغراضه الشخصية وذكرياته، والقدس ظهرت بتفاصيل جمالها وبهائها ومعالمها الدينية والأثرية، ووحدة شعبها. وأما ممارسات الاحتلال القمعية فقد كان لها حصة الأسد في الفيلم، من حيث: وضوح الممارسات العدوانية، والقمع، واستخدام القوة المفرطة، بحق الأطفال والشيوخ والنساء، بلا شفقة ولا رحمة ولا مراعاة للحقوق الإنسانية لهذا الشعب!