‘سراج الجسد العين‘ (متى 22:6)

الكاتب : المطران كيرلّس سليم بسترس

يدعو السيّد المسيح العين "النور الذي فيك". ذلك بأنّ الإنسان من خلال عينه يرى العالم. لذلك على الإنسان أن يحافظ على نقاء هذا النور الذي من خلاله تنكشف شخصيّته وتظهر عواطفه من حبّ أو بغض، من قبولٍ للآخر أو رفضٍ له.

‘سراج الجسد العين‘ (متى 22:6)

هذا ما أكّده يسوع بقوله: "سراجُ الجسد العين. فإنْ كانتْ عينُكَ صحيحةً كان جسدُكَ كلُّه في النور. ولكن إنْ كانت عينُكَ عليلةً فجسدُكَ كلُّه يكون في الظلام. وإنْ كان النورُ الذي فيك ظلامًا فيا له من ظلام" (متى 22:6-23). إنّ الربّ يسوع، من خلال الكلام على عين الجسد، أراد أن يبيّنَ لنا ما الذي يحدث لعين الروح، أي للقلب. فإذا كان القلبُ موجَّهًا التوجيه الصحيح إلى الله وإلى الآخرين، يرى الأمور رؤيةً صحيحة، وإلاّ فهو أعمى. وعمى القلب شرٌّ على الإنسان من عمى العين، لأنّ عمى العين محدودٌ وتقتصر مفاعيلُه على رؤية الأشياء، أمّا عمى القلب فتشملُ مفاعيلُه كلَّ علاقات الإنسان مع الله ومع الآخرين ومع نفسه. وفي هذا السياق نفهمُ الصراعَ الدائمَ بين يسوع والفرّيسيّين الذين كانوا ينظرون إلى أعمال يسوع، من شفاء المرضى وإخراج الشياطين، نظرةً سيّئة، فلا يرون فيها عملَ الله، بل أعمالاً شيطانيّة، فيقولون: "إنّما هذا يطرد الشياطين ببَعْلَزَبول رئيس الشياطين" (متى 24:12). وما ذلك إلاّ لكونهم أُصيبوا بعمى القلب. وفيهم تتمُّ نبوءة أشعيا: "لأنّه قد غلظ قلب هذا الشعب، فصمّوا آذانهم، وأغمضوا عيونَهم لئلاّ يُبصِروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويتوبوا إليّ فأشفيَهم" (أشعيا 8:6؛ متى 15:13).

هناك ثلاث عاهاتٍ تُصاب بها العينُ عادةً: فإمّا لا ترى عن قريب، وإمّا لا ترى عن بعيد، وإمّا لا تُميِّز الألوان. وهذا يصحّ على الصعيد الروحيّ أيضًا: فمن الناس من لا يرون النعم التي منحهم إيّاها الله، فلا يشكرون الله عليها؛ ومنهم من لا ينظرون إلى المستقبَل الذي يُهيّئه لهم الله في حياة الدهر الآتي، فيعيشون من دون رجاء؛ ومنهم من لا يميّزون بين الخير والشرّ، فيعيشون بحسب غرائزهم التي تقودهم إلى موت النفس، غير آبهين بإرادة الله التي تقودهم إلى الحياة الحقيقيّة.

جاء يسوع ليُنيرَ أذهاننا وينقّي قلوبنا، فقد قال: "أنا نور العالَم. فمن تبعني لا يمشي في الظلام، بل يكونُ له النور الذي يقود إلى الحياة" (يوحنّا 12:8). وقد أعطانا النظرةَ الصحيحةَ تجاه الله وتجاه الآخرين. فأوضح لنا أنّ نظرتَنا إلى الله يجب أن تستند إلى نظرة الله إلينا، وهي نظرة الأب لأبنائه: فهي نظرة محبّةٍ تُحرِّر الإنسانَ من خوفه من الحاضر ومن قلقه بشأن المستقبل: "لا تخفْ، أيّها القطيع الصغير، فقد حسن عند أبيكم أن يُعطيَكم الملكوت" (لوقا 32:12). وهي نظرة مغفرة لأنّ الله يعلم ضعفنا، وينتظر توبتنا كما انتظر الأبُ الرحيمُ عودةَ ابنه الضالّ (لوقا 11:15-32). وهي نظرة رحمة تُحيي الإنسانَ وتُعيد له كرامته بإفساح المجال أمامه للبدء من جديد، كما حدث للمرأة التي أُخِذتْ في زنى، فجاء بها الكتبة والفرّيسيّون بنظرات متَّقِدةٍ شرًّا، طالبين منه تطبيقَ الشريعة عليها بالرجم. فقال لهم يسوع: "من كان منكم بلا خطيئة فليبدأْ ويرمِها بحجر". ثم قال للمرأة: "اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة" (يوحنّا 7:8، 11). بهذه النظرة يُفهِمنا يسوع أنّ هويَّتنا لا يُحدِّدها ما نحن عليه الآن من ضعفٍ وخطيئة. نحن أسمى بكثير ممّا نحن عليه الآن: نحن صورة الله، وقد جاء يسوع ليُعيدَ إلينا بهاءَ تلك الصورة التي شوَّهناها بخطايانا.

وفي العلاقات بين الناس، طلب يسوع أن ينظر الناس بعضهم إلى بعض كإلى إخوةٍ أبناء أبٍ واحدٍ هو الله: "فأنتم كلُّكم إخوة... وإنّ أباكم واحدٌ وهو الذي في السماوات" (متى 8:23-9). كما طلب منهم أن ينظروا إلى أخطائهم قبل أن ينظروا إلى أخطاء الآخرين: "لماذا تنظر إلى القذى في عين أخيكَ، والخشبةُ التي في عينكَ لا تفطن لها؟ أم كيف تقول لأخيكَ: دَعْني أُخرِج القذى من عينكَ، وفي عينكَ أنتَ خشبة! فيا مرائي، أَخرجِ الخشبةَ من عينكَ أوّلاً، وعندئذ تتبصَّر كيف تُخرِج القذى من عين أخيكَ" (متى 3:7-5).

يبحث الجميع عن حلّ للوضع المأسويّ الذي وصلنا إليه في لبنان. "سراج الجسد العين". لذلك فالحلّ الوحيد يقوم في أن يصحِّحَ الجميع، ولا سيّما المسؤولون، نظرتَهم إلى بعضهم البعض، ونظرتَهم إلى الشعب، ونظرتَهم إلى الوطن. فينظروا أوّلاً بعضهم إلى بعض كشركاء وليس كأعداء؛ وينظروا ثانيًا إلى الشعب كما نظر الله لشعبه حين قال لموسى: "نظرتُ إلى معاناة شعبي الذين في مصر، وسمعتُ صراخَهم من ظلم مُسخِّريهم وعلمتُ بعذابهم، فنزلتُ لأُنقِذَهم من أيدي المصريّين" (خروج 7:3-8)؛ وينظروا ثالثًا إلى الوطن كإلى بيتهم المشترَك الذي يجب أن يتعاونوا جميعًا على بنائه، وذلك من خلال النأي بالنفس عن التطلّع إلى الخارج، ومن خلال التجرُّد عن المصالح الخاصّة؛ وألاّ ينظروا إلى الوطن، كما قيل، كإلى بقرةٍ حلوب يستفيدون من حليبها، ثم متى هرِمتْ يُرسِلونها إلى المسلخ!