فيلوكاليّا في جبيل: الحُبّ والجمال!
الكاتب : زاهي وهبي – شاعر واعلامي - لبنان
مع مارانا سعد وفيلوكاليا نستعيد وجه لبنان الإيمان والحب والخير والجمال، لبنان الغني بتنوّعه ومبدعيه، وبمواهبه الشابة التي تجلّت تلك الليلة على مسرح مهرجانات جبيل المدينة الملأى بالحياة والمُحِبة لها.

موسم الصيف في لبنان هو أيضاً موسم المهرجانات الفنية. هذه المهرجانات التي تستقطب آلاف اللبنانيين المقيمين والمغتربين والكثير من الزوار والسياح، تقدّم باقة منوعة من الفنون، فيها ما يندرج تحت عنوان التسلية والترفيه، وفيها ما يرتدي حلّة ثقافية من خلال الفنون الجادة التي ترتقي بالذائقة وتسمو بسامعيها ومشاهديها، وتصحبهم في رحلات ماتعة ومفيدة في الوقت عينه.
في مهرجانات جبيل، المدينة اللبنانية العريقة الساحرة، كنا على موعد هذا العام مع سهرة فنية راقية نقلتنا من أرض الواقع المثقل بالأزمات والهموم إلى فضاءات من التجلّي والتحليق بصحبة أصوات جميلة وعازفين أكفاء بقيادة "مايسترا"(يجوز لنا تأنيث كلمة مايسترو وجعلها مايسترا) متمكّنة هي الأخت مارانا سعد، التي لا يمكن وصفها بأنها قائدة تلك السهرة فحسب، لأنها مؤسسة وقائدة لمعهد موسيقي فني متنوع هو معهد فيلوكاليا ومقره في دير الزيارة في بلدة عينطورة قضاء كسروان في جبل لبنان، ويضم جوقةً وفرقةً ومعهداً لآلة العود وأقساماً أخرى متعددة، ومَن يزر المعهد يدرك أن ما تقوم به الأخت مارانا وفريق عملها تعجز عنه أحياناً مؤسسات ووزارات كاملة، ويكفيها أنه يحتضن عشرات المواهب لشابات وشبان وفتيات وفتيان يكبرون بصحبة الموسيقى والجمال.
الاسم في حد ذاته يحيلنا إلى معنى راقٍ وجميل في آن. هو تركيب من كلمتين يونانيتي الأصل تعنيان المحبة والجمال. أُستخدِمَت الكلمة عند الفلاسفة الإغريق "للدلالة على تذوّق الجمال من خلال حواس الإنسان بخاصة حاستي النظر والسمع وهي تختلف بين إنسان وآخر بحسب تذوّقه للفن، كما يمكن تطويرها بالممارسة على أساس الموهبة".
وهل تخفى حاجة البشرية إلى المحبة والجمال في خضم الصراعات التي تعصف بالعالم متسببةً بالحروب والكوارث والويلات؟ وهل غير الجمال نحارب به القبح والبشاعة؟ ونعني هنا جمال الأنفس أو قبحها. فالنفّس الأمّارة بالسوء تزكّيها المحبة وتروِّضها وتنقلها من حضيض الشرّ إلى مرتبة الخير والنقاء.
الموسيقى التي قال أفلاطون إنها "تعطي روحاً للكون، أجنحةً للعقل، طيراناً للمخيلة وحياةً لكل شيء". هي واحدة من أجمل أدوات التواصل بين البشر لأنها لغة كونية لا تحتاج ترجمة ولا تفسيراً، يكفي أن نحسّها ونتفاعل معها حتى تنقلنا من حال إلى حال، وتجعلنا قادرين على التحليق فكراً وخيالاً ومزاجاً. ففي أوقات الشدائد تصير الموسيقى، سواء أكانت مجردة بلا كلمات أو مصحوبة بالغناء، ملاذاً نلجأ إليه ونحتمي به من شوائب الأزمنة الرديئة.
هذه كانت حالنا (مثلاً) مع فيروز زمن الحروب اللبنانية المدمرة. يومها، كانت الخنادق والملاجئ والغرف السفلية أكثر أمناً وأماناً برفقة صوتها السماوي وموسيقى الأخوين الرحباني. هذا الصوت وهذه الموسيقى استعدناهما ليلةَ فيلوكاليا في جبيل حيث عصا "المايسترا" مارانا سعد تحرك حشداً من الموسيقيين والمنشدين والمغنين بلغ عدده في لحظة الذروة 140 شاباً وشابة، في تناغم وانسجام تامّين، قبالة جمهور حاشد تجاوز الألفي شخص ملأ مقاعد مسرحٍ أقيم في الهواء الطلق على شرفة الأبيض المتوسط بين ميناء جبيل وقلعتها التاريخية، منصتاً لأغنياتٍ خالدة سجّلها شعراء وملحنون كبار في الريبرتوار الذهبي للغناء العربي مثل سيد درويش، فريد الأطرش، الأخوين الرحباني، فيلمون وهبي، وديع الصافي، محمود درويش، محمد العبد الله، مرسيل خليفة، شربل روحانا، أسامة الرحباني وسواهم. وأعدّها لبرنامج السهرة الشاعر اللبناني هنري زغيب.
حمل الحفل عنوان "أصل الموسيقى" في إشارة واضحة إلى انحياز الأخت مارانا إلى نوع الفنّ الذي نريده ونفتقده هذه الأيام نظراً لطغيان "الفنّ" التجاري الهابط، وتغييب كل ما هو جاد وعميق سواء لدى شركات الإنتاج أو لدى وسائل الإعلام على اختلافها تقليدية أو حديثة (!) إلا في ما ندر. رغم أن الإقبال الكثيف على حضور الحفل (وعلى مناسبات شبيهة كما هي الحال مع حفلات جوليا أو ماجدة مثلاً) يثبت أن نظرية "الجمهور عايز كده" التي يتذرّع بها منتجو الفن التجاري ومروّجوه غير صحيحة، وأن كثيرين يأنسون للفنّ الحقيقي والراقي، يبحثون عنه ويأتون إليه متى سنحت لهم الفرصة، لأن الفطرة السليمة تنحاز لكل ما يلامسها ويحاكيها ويحكي معها، رغم سيل التفاهة الجارف الذي يتدفق علينا من كل حدب وصوب.
هي مناسبة أيضاً لنؤكد مجدداً أن الفنّ ليس نوعاً من الترف، ولا من الكماليات، بل هو من الضرورات أياً كانت الظروف والأحوال. ولا غرابة إذا علمنا أن كثيراً من التيارات والمذاهب الفنية وُلِدت من رحم الحروب والمآسي، لأن الفنّ هو المعبّر الأول عن دواخل الإنسان ومشاعره وأحاسيسه، وهو من أبرز منافذ الخلاص لأنه يفتح كوى واسعة في الوعي ويهذب النفّس ويلهمها الحب والخير والجمال، وهو (ونحن في ذكرى انتصار لبنان على العدوان الإسرائيلي صيف العام 2006) شكل من أشكال المقاومة. مقاومة الابتذال والاستهلاك، ومقاومة الجهل والتطرف، مثلما هو جزء لا يتجزأ من هوية الشعوب والأوطان، وحارس لذاكرتها وإرثها الحضاري (راجع مقالة الكاتب بعنوان: حبرٌ يحرس الذاكرة).
مع مارانا سعد وفيلوكاليا نستعيد وجه لبنان الإيمان والحب والخير والجمال، لبنان الغني بتنوّعه ومبدعيه، وبمواهبه الشابة التي تجلّت تلك الليلة على مسرح مهرجانات جبيل المدينة الملأى بالحياة والمُحِبة لها.
كما أن للموسيقى والغناء بعداً روحانياً، ليس فقط في الابتهالات والتراتيل والأناشيد والمدائح، بل في كل موسيقى راقية وحقيقية لأنها متى كانت كذلك تحلّق بنا نحو سماوات الرحمن وتقرّبنا أكثر من سرّ الوجود. وهي فرصة لأستعيد بعضاً مما كتبته يوماً في منشور مرافق لإحدى أمسيات فيلوكاليا وفيه: "لئن كانت الرهبنة تفرُّغاً لخدمة الله، ونذراً مقدساً على درب ملاقاته، فإن الأخت مارانا سعد قد أدركت، بالفطرة وبالوعي، بالسليقة وبالمعرفة، وقبل كل ذلك بالإيمان العميق، أن لتلك الخدمة دروباً كثيرةً موصِلةً إلى الملكوت. فالله لا يُعرفُ فقط بالطقوس والمناسك، بل أيضاً بالحب والخير والجمال. بلا هذا الثالوث تعود الطقوسُ إلى سيرتها الأولى، إلى ما قبل البشارة وجذع النخلة: وثنية لا روح فيها.
بالحب والخير والجمال يُعرَفُ الله، وبها يُخدَم. وما خدمة الله سوى خدمة بنيه. حين ينتشر الحب والخير والجمال يصير العالم هو الفردوس (المفقود)، وتعود الأرضُ جنةً أولى".