السلام والعنصرية ومستقبل الإنسانية

الكاتب : د. ميشال أ. عبس - الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

حدّدت الأمم المتحدة تاريخ 21 أيلول/سبتمبر اليوم الدولي للسلام وقد اتخذت لسنة 2022 شعار "إنهاء العنصريّة وبناء السلام". كما ستحتفل المنظّمة الأمميّة بهذا اليوم عبر فعاليات متنوّعة جرى تفصيلها على موقِعها الإلكتروني وقد ركّزت فيها على عنصر الشباب.

السلام والعنصرية ومستقبل الإنسانية

لا شكّ أنّ منظمة الأمم المتحدة سبّاقة في شتّى المجالات وهي تشكّل موقع تفاعلٍ فكري وتنسيق عملاني لنشاطات تغطّي كلّ نواحي الحياة، والسلام والعنصريّة أهمّها وأكثرها الحاحًا اليوم.

في هذا الزمن، حيث الإعلام ووسائل التواصل تغطّي المسكونة، قد يكون من الميسّر إقامة النشاطات الفكريّة والثقافيّة والتربويّة من أجل مكافحة العنصريّة وتوطيد السلام الإجتماعي والعالمي، ولكن نفس تلك الوسائل التي تستعمل للخير، يمكن لمثيري الفِتن ومحرضّي الجماعات إستعمالها للشرّ.

إذا كانت مواقع التواصل تزخر بشتّى أنواع الحملات السليمة السامية، فإنّها تزدحم بأكثر منها من حملات التحريض والتمييز العنصري والنزعات الإلغائيّة وخطاب الكراهية وتهميش الضعفاء.

المشكلة تكمن في ظاهرتين أساسيتين:

البُعد الأوّل يكمن في الهجرة الدوليّة وموجات النزوح، من البلدان الأقلّ بحبوحة إلى البلدان التي تتمتّع ببعض منها، فيتحوّل الكون إلى فسيفساء من الجنسيات والأديان والمذاهب والأعراق والإثنيات تتعايش في مجتمع واحد وعلى مقربة من بعضها البعض، أكان في نفس المنطقة أو في نفس البناء أو في نفس المؤسّسة حيث يعمل هؤلاء الناس.

البُعد الثاني يكمن في التنافس على الوظائف وموارد العيش في المجتمعات الحديثة التي ما فتئت تضيق على أهلها بحكم ورود موجات النزوح إليها. إنّ التهافت على موارد الرزق يشكّل عنصرًا أساس في التمييز العنصري وخطاب الكراهية، خصوصًا إذا كان الوافدون من اللاجئين ويستفيدون من مساعدات دوليّة تأتيهم، الأمر الذي لا يتوفّر لسكان البلاد المُستقبِلة.

لست بصدد إنكار التمييز والكراهية الذين تدأب بعض الجماعات أو العائلات على تربية أبنائها عليها، لأسباب دينيّة أو نفسيّة أو تاريخيّة، ولكن تجاهل البعد الإقتصادي والإكتفاء بالعمل التربوي التوعوي لا يؤدّي الغرض من حملات السلم الإجتماعي.

إنّك لا تستطيع أن تجعل الجماعات تتحاب، خصوصًا إذا كان منها من نزح حديثًا، وإذا كانت إحدى هذه الجماعات تعتبر أنّ الأخرى تأخذ مورد رزقها من دربها، في مجتمع حديثٍ، قاسٍ، تفعل فيه البطالة ويفعل فيه التهميش الإقتصادي فعله.

كما أنّ التربية والتوعية هما مفتاح إنهاء العنصرية وبناء السلم الإجتماعي، فإنّ العدالة الإجتماعيّة وحسن توزيع الدخل والثروة هي الأساس المتين الذي يبنى عليه هذا السلم.

كَمْ مِن مشكلة بين جماعات متقاتلة إكتشف الباحثون في النهاية أنّ لها بعدًا إقتصاديًّا وطبقيًّا؟

كًمْ مِن تمييز عنصري أو ديني أو إثني وجدنا أنّ أساسه فروقات طبقيّة ومواقف فوقيّة تمارسها فئة ضد أخرى؟

لن تستطيع البشريّة أن تنعم بالسلام دون العدالة مترافقة مع حملات تربويّة وتوعويّة.

في سياق متصل، لا تستطيع الحملات التي تهدف إلى ترسيخ السلام، خصوصًا عبر مكافحة العنصريّة، أن تتجاهل دور المسيحيّة وتعاليم الإنجيل في هذا المجال. الرّب هو رّب السلام في المسيحيّة وقد وردت على لسان السيّد المتجسّد أن "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ"(مت 5: 9) وذلك رغم أنّه قال "لا تظنّوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض. ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" (مت 10: 34؛ لو 12: 51). إنّ سيف المسيح هو محبّته التي بها غلب العالم واستماتته في الدفاع عن الجنس البشري ومعذّبي الأرض، الذين ادعت عقائد أخرى أنّها تدافع عنهم في وقت كانت تسحقهم.

إضافة إلى ذلك، لم ينتظر السيّد، المتجسّد من الآب، الثورة الصناعيّة وموجات النزوح المحليّة والعالميّة لكيّ يعلن انحيازه لثقيلي الأحمال: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُم" (مت 11: 28).

أمّا ذروة هذا المنحى لدى السيّد المسيح فتكمن في دفاعه عن الغرباء وقد اعتبر أنّه واحد منهم فكلمات ترنيمة "أعطني هذا الغريب" تختصر كلّ المشهد. نقتطف منها:

"أعطني هذا الغريب، الذي منذ طفولته اغترب كغريب.
أعطني هذا الغريب، الذي أماته أبناء جنسه كغريب...
أعطني هذا الغريب، الذي يعرف أن يقري الفقراء والغرباء"

إنّ محاربة العنصريّة وكلِّ أشكال التمييز بين البشر يحتاج إلى عقيدة ايمانيّة راسخة، تدخل في عمق النفس الإنسانيّة وتسكن كلّ اختلاجاتها.

إنّ محاربة العنصريّة، وغيرها من الآفات الإجتماعيّة، تحتاج إلى دفء السيّد الذي تجسّد مِن أجل بني البشر، فيما قال وفعل، كما أنّ كلامه وقدوته سوف يبقيان نورًا يضيء العالم حتى انقضاء الدهر.