الأحد التاسع والعشرون من الزمن العادي، السنة ب (مرقس ١٠: ٣٥ - ٤٥)

الكاتب : البطريرك بيير باتيستا بيتسابالا- بطريرك القدس للاتين

للمرّة الثالثة يتحدّث يسوع مع تلاميذه عن آلامه، وللمرّة الثالثة لا يَثبُت لنا عدم فهمهم فحسب، بل أيضًا بُعدهم عما يعيشه يسوع. يتبع المشهد في هذه المرّة (مرقس ١٠: ٣٥ - ٤٥) الإعلان الثالث عن الآلام،

الأحد التاسع والعشرون من الزمن العادي، السنة ب (مرقس ١٠: ٣٥ - ٤٥)

وهو أكثر نشازا من المرّتين السابقتين: بينما كان يسوع يقترب من أورشليم، يبدو أن التلاميذ، على العكس، كانوا يبتعدون عنها.

دعونا نتوقّف عند بعض المقاطع.

المقطع الأوّل هو طلب إبني زبدى: “نريد أن تصنع لنا ما نسألك” (مرقس١٠: ٣٥). حتى لأول وهلة، يبدو هذا الطلب غير سارّ لنا. لماذا؟

ثمة ثلاثة أسباب على الأقل: يرتبط الأول بفعل “نريد” الذي يُعبّر عن حياة وفكرة وشعور يسير بموازاة حياة يسوع، دون أن يلتقي به. إن كان الابن هو مَنْ يفعل مشيئة الآب، وإن كان التلاميذ هم أولئك الذين يتبنّون هذه الطاعة الواثقة، فإن يعقوب ويوحنّا منغلقان على عالمهما وضائعان في أحلام جنون العظمة. لديهما إرادة شخصيّة، وهي ليست إرادة ربّهما.

السبب الثاني هو طريقة المثول أمام يسوع، أي شكل العلاقة التي ينطوي عليها هذا الطلب، والتوقعات التي لديهما: أي التفكير في يسوع كشخص قادر على فعل كل شيء من أجلي، وبالتأكيد سوف يُلبّي كلّ احتياجاتي، وكل أحلامي. في الواقع، ليس الأمر كذلك. يسوع لا يفعل هذا أبدًا، لأنه يحبنا ويريد أخذنا إلى الآب وانفتاحنا عليه. لا يعطينا يسوع أي شيء لا يخدم هذا الهدف، أو يشكّل عائقًا أمامه، وذلك من أجل خلاصنا.

السبب الثالث هو كونه طلبًا يستثني الآخرين: لا يفكّر يعقوب ويوحنّا سوى في نفسهما، وبطريقة إقصائية. يفكران ويخططان كما لو أن الآخرين غير موجودين.

ولكن لماذا يتجرآن على هذا الطلب؟

نجد الجواب في قول يسوع إنهما لا يعلمان ما يسألان. إنّ مشكلة التلاميذ هي بالضبط عدم العلم. والفعل “يَعْلَم” له أهمّية خاصّة في رواية الآلام: في بشارة يوحنّا، في الفصل ١٣، نجد أن الآلام كلّها تعتمد على هذا الفعل: “كان يسوع يعلم بأن قد أتت ساعة انتقاله عن هذا العالم إلى أبيه…” (يوحنا ١٣: ١)؛ وبعد هذه الآية بقليل: “…وكان يسوع يعلم أنّ الآب جعل في يديه كل شيء…” (يوحنّا ١٣: ٣). يعلم يسوع مَنْ هو، ويعلم مِن أين أتى، ويعلم إلى أين هو ذاهب. وبمعرفته هذه، هو يُحبّنا حتّى المنتهى، ويخلع ثيابه، ويأتزر بمنشفة ويغسل الأقدام.

تمّ ذلك بينما التلاميذ يجهلون أن المجد هو في الصليب.

لذا، من المهم أن نعرف التالي: يجب أن نكون على بيّنة من دعوتنا الخاصّة، ومن الهبة الخاصّة التي حصلنا عليها، مع العلم أن هذا يكفي للحياة، وليس من الضروري إضافة أي شيء آخر. نحن نمتلك هذه الهبة في نفس اللحظة الّتي نُشارك الآخرين فيها، أي عندما نشمّر عن سواعدنا ونضع أنفسنا في الخدمة، في اللحظة التي نبذل فيها حياتنا، مثل يسوع: هذه هي العظمة الحقيقية، وهذا ما يجب أن نعرفه. وإلا سوف نفقد أنفسنا في أحلام العظمة العقيمة والمدمّرة.

عمليًّا، فقط بعد الفصح سيعرف التلميذان كم كانا محبوبَين. وسيعرفان ذلك لأنّهما لم يكونا حاضرَين حيث رغبا في أن يكونا: عن يمين وعن يسار الرب المصلوب. في مجد الصليب سيكون هناك لصان. ومن المثير للاهتمام أن هذا التعبير “عن يمين وعن يسار” يرد في مرقس في هاتين المناسبتين فقط، هنا وعلى الصليب. لقد تجنّبا هذه الميتة.

يتعلق المقطع الثالث بإجابة يسوع: بينما يسعى التلاميذ وراء رفعة وعظمة من صنع الخيال، يستخدم يسوع، على العكس من ذلك، صورا تدل على النزول والانخفاض والتواضع، كي يقول أنّ المجد الحقيقي لا نجده في الأعلى، بل في أقل مستوى ممكن، بالانحناء عند أقدام الأخ في لفتة خدمة متواضعة.

يتم ارتقاء المجد من خلال خفض الذات وفقدانها، وهذا يتناقض تمامًا مع ما نتوقّعه على الصعيد البشري.

وإن كان أسلوب حياة الرسولين الأخوين إقصائيا ومدمرًا، فإن أسلوب يسوع يخلق الشركة ويؤدي إلى اللقاء: هو أسلوب العيش من أجل الآخرين، وليس من أجل الذات. هذا هو معنى الصليب.

يمكننا مقاربة هذا المقطع مع قصة تجارب يسوع في البرّية: في ذلك السياق، يخضَع يسوع للاختبار ويُدعى إلى الاختيار بين مجد العالم الزائل والمجد الذي أعطاه الآب إيّاه؛ وسوف يتعلّم يسوع آنذاك أن يطلب المجد الحقيقي من الآب، كما سيتكرّر كثيرًا في الفصل السابع عشر من بشارة يوحنّا، حيث إن المجد الذي يطلبه يسوع لا يتعلّق بالسلطة وتوابعها، بل بالحب فقط.

+ بييرباتيستا

١٧ تشرين الأول ٢٠٢١