أفكار في الوطنيّة المسيحيّة الحقيقية

الكاتب : بطرس منصور

لا جدال أن وجودنا العربي الفلسطيني المسيحي كمواطنين في إسرائيل يضعنا في موقع مركّب. لن ألوج في تشابك هوياتنا الفرعية ولا بعلاقة مواطنتنا مع انتمائنا القومي.

أفكار في الوطنيّة المسيحيّة الحقيقية

ولكني سأطرح ملاحظات حول معنى الوطنية لمسيحي يضع الاعتبار لإيمانه وليس لمسيحي اسمي يضع ايمانه المسيحي على الهامش.

ان المشاعر الجيّاشة بالحسّ الوطني تطفو في حقبة شن الحملات العسكرية والقتال، وهي كثيرة للأسف في بلادنا. شعور الظلم او مشاهد مقتل الأبرياء يولدان الغضب عند أبناء شعبنا فتطرأ الرغبة بالاحتجاج وتفريغ الغضب. والسخط يُترجَم بعدة طرق منها المشروع ومنها الخارج عن القانون مثل العنف ضد "ممثل" للمُعتدي او مظاهرات سلمية او عنيفة. لكن طريقة الاحتجاج الأكثر شيوعاً هي في طرح المواقف او التهجم شخصيًا او عامًة أو التنظير من على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن ما هي الوطنيّة الحقيقية اصلاً؟

بحسب تعريف الويكيبيديا، الشخص الوطني هو "شخصٌ يحب بلده، ويدعم سلطتها ويصون مصالحها". إن القصد بحسب فهمي هو ليس محبة حجارة البلد فحسب وانما محبة ناسها ونسيجها الاجتماعي وتاريخها وجغرافيتها ولغتها وحضارتها وعاداتها. ان محبة الناس هي الأساس وبالباقي يُشتَق منها. فمحبة الناس هي الشرط للباقي وهي التي تقودني لمحبة تاريخهم وعاداتهم ولغتهم. من هنا سنركز في محبة الناس.

ولكن ما هي تلك المحبة؟ هي طبعًا أكثر من مجرد استلطاف الناس في بلدك، كما انها ليست المحبة الرومانسية.

لنفهم مغزاها نعود لوصية الرب "تحب قريبك كنفسك" (متى 22: 39). سأفهم محبة القريب حين أفهم محبة نفسي ومن المفروض ان يكون ذلك سهلًا لأنه يخصني شخصيًا كما يخص كل واحد. ولقد أوضح الرب بما لا يقبل التأويل من هو "القريب" بتقديمه لمثل "السامري الصالح" (لوقا 10: 25-37). في هذا المثل – يقوم سامري بالاعتناء بيهودي هاجمه اللصوص ورموه على قارعة الطريق ملطخًا بدمائه في الوقت الذي استعرت العداوة اللدودة بين شعبيهما. بكلمات أخرى- واجب المسيحي ان يحب الجميع وهذا يشمل "العدو".

ولكن كيف "تحب نفسك" لكي نقدر ان نشبّه محبتنا للآخرين بها، كما يطلب الرب؟ ان محبتنا لأنفسنا تتجلى باهتماماتنا بحاجاتنا وسعينا لمصلحتنا حتى لو غضبنا من أنفسنا لهفوات أو سقطات اخطأنا بها. اننا لا نيأس من أنفسنا بل نمنحها فرصة أخرى. من الملفت للنظر ان تعريف ويكيبيديا لـ"لإنسان الوطني" كما جاء أعلاه، يطابق ذلك اذ يشتمل "يصون مصالحها".

بكلمات أخرى- اذا شئت ان أكون وطنيًا بمعناه الحقيقي بما يتناسب مع روح الانجيل، فعليّ ان أحب أبناء شعبي وأبغي خيرهم. لكن ما هو ذلك الخير؟ هل هو تدليلهم واغراقهم بالأموال مثلاً او منحهم تصريحًا للاستباحة او لفعل ما شاءوا؟ ام هو تغذية ما يرفع معنوياتهم وتملقهم؟ ان هذا لربما يفرحهم لكنه ليس في مصلحتهم. ما هو معيار ذلك الخير؟

إن معيارنا لمعرفة مصلحة الانسان هو حالة الانسان الأول عند خلقه، اذ الله خلق الإنسان على صورته كشبهه (تك 1: 27). انها صورة انسان صاحب كرامة واحترام وحقوق- هذا هو القصد الأساسي للخلق. انه انسان يقدر ان يعبّر عن رأيه ويقدر ان يترشح للحكومة وان يسافر. انه الانسان الذي نمنع الاعتداء عليه جسديًا أو على خصوصيته ولا ان يأخذ أحد اغراضه او املاكه او أن يستخدمها عنوّة ودون اذن. انه الانسان الذي نعامله بمساواة ودون عنصرية وليس بالكبت والاحتلال والقسوة فلقد طالبنا الرب بالعدل والمساواة (انظر مثلا لوقا 4: 17-18، ميخا 6: 8، لاوين 24: 22، أمثال 31: 19، زكريا 7: 10-11). كما انه الحق بالتمثيل القانوني في المحاكم وحق المتهم ان يُعتَبَر بريئا حتى يُدان. ولا يُدان أصلا بدون تمثيل قانوني ومحاكمة عادلة بحسب الاصول. باختصار –انه الحق بالعيش الكريم. ان الخير المطلوب منك لكي تمنح غيرك العيش الكريم هو ان تعيد لقريبك صورة الله التي فيه.

ان اختبار الوطنية ليس بإطلاق الشعارات ولكنه - وفق التعريف الإنجيلي وحتى التعريف الاعتيادي- بالعمل على اتاحة العيش الكريم لشعبك.

ان ذلك يشتمل الحفاظ على ملك القريب بالامتناع عن رمي النفايات في الحيز العام وعدم الاعتداء على حدوده او جدرانه ولا ازعاجه. انه يشمل احترام الرأي الآخر والاستماع له وعدم تكفير ابناء شعبك. ان الوطني يحمي الضعيف ويطالب بالعدل دون خجل او خوف. انه يخدم غيره بما أوتي من قوة. انه يشجع العلم والتقدم المجتمعي ويعمل على مصلحة أولاد بلده. انه يسعى لكي يصبح بلده أكثر مساواة. انه يعطي من موارده في سبيل افراد المجتمع. ان الوطني لا يسرق حق السلطة في الضرائب ولا يسعى للتحايل على القانون للحصول على مآربه. انه ملح ونور. انه يبارك شعبه بتصرفاته ومواقفه.

حين نعرف الوطنية الحقيقية التي رسمنا معالمها أعلاه فعندها يتوجب العمل لتنفيذها واستخدام الوسائل الضرورية لذلك. هذه الوطنية هي طريقة حياة ويعيشها ويتنفس هواءها الوطني الحقيقي في كل يوم. انه يطبقها في بيته ومعمله ومع زوجته وأولاده ومع جيرانه. اما في المواضيع السياسية العامة فيمكن ان يقدم الدعم المادي لأهداف مختلفة تصب في حب الناس وحقوقهم او حتى الدعم الاجتماعي او السياسي لمن يعمل بجهد لإحقاق إعادة صورة الله في أخي الانسان ابن بلدي.... وحتى كل انسان.