الرُّعاة ودورهم في تشتّت الرعيّة

الكاتب : المطران كيرلُّس سليم بسترس

إنّ تاريخ العهد القديم هو تاريخ علاقة بين الله وشعبه. وهذه العلاقة هي علاقة محبة وعناية. فالله اختار شعبَه وأوكل إليهم رسالةً تقوم على التعريف باسمه بين الأمم.

الرُّعاة ودورهم في تشتّت الرعيّة

ومن بين الألقاب التي يطلقها الكتاب المقدَّس على الله يظهر لقب "الراعي"، كما يقول المزمور 23: "الربُّ راعيَّ فما من شيءٍ يُعوِزني، في مراعٍ نضيرةٍ يُريحُني، مياهَ الراحة يورِدُني ويُنعشُ نفسي، وإلى سُبُل البرِّ يَهديني إكرامًا لاسمه". فالشعب يتّكِل على الله كما يتّكل القطيع على راعيه، لذلك لا يخاف، كما يتابع المزمور: "إنّي ولو سرتُ في وادي الظلمات لا أخافُ سوءًا لأنّكَ معي. عصاكَ وعكّازُكَ يُسكِّنان رَوْعي. تُعِدّ مائدةً أمامي تجاه مُضايقيَّ، وبالزيتِ تُطيِّبُ رأسي، فتفيضُ كأسي". إنّ هذا العمل الإلهيّ قد عهد به الله لرعاةٍ يرعَون الشعبَ باسمه. وكلُّ ما قيل عن الله في هذا المزمور يُفترَض أن يقوم به الرعاة. لكنّ الرعاة لم يكونوا على قدر المسؤوليّة التي أوكِلتْ إليهم.

لذلك كان الأنبياء على الدوام يذكِّرون رعاةَ الشعب بمسؤوليّاتهم. فالله قد انتدبهم ليكونوا ممثّليه وعلامةً لحضوره بين شعبه، فيتصرّفوا مع الشعب كما يتصرّف الله نفسه. فنسمع النبيّ حِزْقِيال يؤنِّب الرعاة بكلامٍ قاسٍ لكونهم يستفيدون من وظيفتهم ولا يهتمّون لحاجات الشعب، فيقول: "يا ابنَ الإنسان تنبّأْ على رعاة إسرائيل، تنبّأْ وقلْ لهم: هكذا قال السيّد الربُّ للرعاة: ويلٌ لرعاة إسرائيل الذين يَرعَون أنفسَهم. أليس على الرعاة أن يرعَوا الخرافَ؟ إنّكم تأكلون الألبانَ وتلبسون الصوفَ وتذبحون السمين، لكنّكم لا ترعَون الخرافَ. الضِّعافُ لم تُقوُّوها، والمريضةُ لم تُداووها، والمكسورةُ لم تجبروها، والشاردةُ لم تردّوها والضالّة لم تبحثوا عنها. وإنّما تسلّطتم عليها بقسوةٍ وقهرٍ، فأصبحتْ مُشتَّتةً من غير راعٍ، وصارتْ مأكلاً لجميع وحوش الحقول وهي مُشتَّتة" (حزقيال 1:34-5). ويقول إرميا: "لأنّ الرعاة صاروا بليدين ولم يلتمسوا الربَّ، فلذلك لم يفهموا، وجميعُ رعيّتهم تشتَّتتْ"(21:10). ويقول أيضًا: "ويلٌ للرعاة الذين يُبدِّدون ويُشتِّتون غنم رعيّتي، يقول الربّ. لذلك هكذا تكلّم الربّ، إله إسرائيل، على الرعاة الذين يرعون شعبي: إنّكم قد شتَّتُم غنمي وطردتموها ولم تفتقدوها. فهاءَنذا أفتقد عليكم شرَّ أعمالكم، يقول الربّ" (1:23-2). ونسمع أشعيا يتكلّم عن أنانيّة رعاة الشعب، فيقول: "فإنّ رقباءه كلُّهم عميانٌ لا علمَ لهم. وكلُّهم كلابٌ بُكمٌ لا يستطيعون النباح، حالمون مضطَجعون محبّون للنوم، كلابٌ نهمة الأخلاق لا تعرف الشِّبَع؛ رعاةٌ لا يعرفون التمييز، كلّهم يميلون إلى طريقهم، وكلُّ واحدٍ إلى مكاسبه عن آخرهم" (10:56-11).

إنّ سبب تصرّف الرعاة الشاذّ يوضحه الربّ يسوع المسيح بالتمييز بين الراعي الحقيقيّ والأجير، فيقول: "أنا الراعي الصالح؛ الراعي الصالح يبذل نفسَه عن الخراف. وأمّا الأجير فليس راعيًا حقًّا، والخرافُ ليستْ له، فإذا رأى الذئبَ مُقبلاً يترك الخراف وينجو بنفسه، فيستولي عليها الذئبُ ويبدِّدها؛ ذلك بأنّه أجيرٌ ولا يُهِمّه أمرُ الخراف" (يوحنّا 11:10-13). إنّ كلّ ما قاله الأنبياء عن الرعاة الذين لا يهتمّون بالشعب بل "يميلون إلى طرقهم"، ويسعى "كلّ واحدٍ منهم إلى مكاسبه"، سببه أنّ هؤلاء الرعاة ليسوا رعاةً حقيقيّين بل هم أجراء. فلا يعتبرون الناس المسؤولين عنهم أبناءً لهم: "فالأجير ليس راعيًا حقًّا، والخرافُ ليستْ له".

يتساءل الناس كيف وصلنا في لبنان إلى ما وصلنا إليه من انهيارٍ في مختلف الميادين الاقتصاديّة والماليّة والسياسيّة والاجتماعيّة. ليس من سببٍ آخر سوى أنّ المسؤولين في لبنان لم يكونوا رعاةً حقيقيّين بل أجراء، همّهم أن يكسبوا معاشهم ويستفيدوا من وظيفتهم. منذ أكثر من ألفي سنة والإنسان لم يتغيَّر، وكلّ ما قاله الأنبياء والسيّد المسيح عن الرعاة ينطبق على كثيرين من السياسيّين في لبنان. وما قالوه في مسؤوليّة الرعاة عن تشتُّت الرعيّة ينطبق على مسؤوليّة أصحاب السلطة في لبنان عن الوضع المأسوي الذي وصلنا إليه والذي حمل الألوف من اللبنانيّين على الهجرة إلى بلدان أخرى لا يجدون فيها أجراء بل رعاةً حقيقيّين يحترمون كلّ إنسان ويؤمّنون له حقوقه ويحافظون على كرامته.