يوم زارنا عبد الحليم حافظ في بيتنا.. فرددنا له الزيارة في دار السينما

الكاتب : ابراهيم موعد - كاتب فلسطيني

حدث ذلك يوم صدح المذياع الذي اشتراه أبي لمتابعة الأخبار، وآيات الذكر الحكيم، بإحدى أغنيات المطرب عبد الحليم حافظ التي ربما كانت قولوله الحقيقة، في وقت كانت سينما جمال الواقعة في حي حطين جنوب مخيم عين الحلوة، تترنّم بأغنيات فوق الشوك، وخيّ خيّ، وصبوا القهوة، ومصطفى يا مصطفى، إيذاناً ببدء عروضها التي كانت بمعدّل حفلتين يومياً .

يوم زارنا عبد الحليم حافظ في بيتنا.. فرددنا له الزيارة في دار السينما

شرعنا كل حين، بغياب أبي غالباً، الذي لم يكن يطيق قط، الصخب الغنائي، نعبث بإبرة الراديو لنحظى بأغنية ما لعبد الحليم حافظ، وكان هذا يجلب لنا متعة عارمة. وما لبثنا أن ابتعنا بعشرة قروش لبنانية كتيّباً يحوي أغنيات المطرب الرائجة آنذاك. فرحنا نرنّم أغنياته التي سبق أن سمعناها، ونجتهد بإيجاد لحن لتلك التي لم يتسّنَ لنا سماعها بعد .

في الأثناء، اطّلعنا على سيرة المغني الشاب عبر الإذاعة وغالباً، الجرائد والمجلّات. وزدنا به تعلّقاً عندما علمنا أنه عاش يتيم الأبوين منذ عامه الأول. وعلمنا أنه أُصيب بمرض البلهارسيا أثناء عومه مع أقرانه الصغار في ترع نهر النيل الملوّثة. وقد رافقه ذلك المرض طيلة حياته حيث أودى به في سن السابعة والاربعين. وعلمنا انه من مواليد محافظة الشرقية، وله ثلاثة أخوة، محمد وعليا وإسماعيل شبانة الذي عمل مطرباً لبعض الوقت. وأنه التحق بمعهد الموسيقى العربية وعمل مدرّساً لبضع سنوات قبل ان يتقدّم الى مسابقة اذاعة القاهرة، حيث أعطاه مديرها حافظ عبد الوهاب اسمه الاول، فعُرف باسم عبد الحليم حافظ. وكانت أولى أغنياته صافيني مرة من لحن رفيق دربه محمد الموجي. لكن الأغنية رغم جمال كلماتها ولحنها لم تلقَ رواجاً. فانتظر العندليب الأسمر لتحقيق شهرته التي كانت على وقع أغنية على قد الشوق يا جميل سلّم، من تلحين رفيق دربه الآخر كمال الطويل. وتوالت أغانيه الناجحة التي ساهم في تأليف معظمها مرسي جميل عزيز، وتناوب على تلحينها محمد الموجي وكمال الطويل. ثم دخل على الخط محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ومنير مراد وغيرهم. وعلى خط التأليف حسين السيد وأحمد شفيق كامل ومأمون الشناوي وفتحي قوره ومحمد حمزة وعبد الرحمن الأبنودي وصلاح جاهين، من دون ان نغفل كامل الشناوي الذي قدم له قصائد لا تكذبي، حبيبها، لست قلبي. كذلك نزار قباني في قارئة الفنجان ورسالة من تحت الماء .

كأي مطرب، جذبت السينما عبد الحليم حافظ، فان له ستة عشر فيلماً أبرزها لحن الوفاء وبنات اليوم وشارع الحب والوسادة الخالية وحكاية حب ويوم من عمري وبكائية الخطايا، ومعبودة الجماهير، وآخرها أبي فوق الشجرة الأكثر نجاحاً جماهيرياً. مع الإشارة ان فريد الاطرش كان أكثر المطربين إقناعاً سينمائياً. ولضمان نجاح هذه الأعمال (كان الجمهور يقصدها لأجل الاستمتاع بغناء مطربه المفضّل) أُحيط المطرب بنجوم كبار كشادية وماجدة وفاتن حمامة وناديا لطفي ومريم فخر الدين، وفردوس محمد وزينات صدقي ومديحة يسري، وحسين رياض وسراج منير وعماد حمدي وحسن فايق ومحمود المليجي وأحمد رمزي وعبد السلام النابلسي، وعبد المنعم ابرهيم وعبد الوارث عسر .

بزغ نجم عبد الحليم بالتزامن مع قيام ثورة 23 يوليو عام 1952. وبما أنه لم يتلّوث بالحقبة الملكية الفاسدة، ظهر كأنه ابن الجيل الصاعد الذي يمثّل تطلّعات هذه الثورة. وكلحن وفاءٍ منه لم يفوّت هذه المناسبة، فكان له جديده الوطني كل عام. ولم يجد غضاضة في ذكر قائد الثورة جمال عبد الناصر بالاسم، كما في أغنية يا جمال يا حبيب الملايين، وحكاية شعب حيث أنشد :

كانت الصرخة القوية / من ميدان بالاسكندرية

صرخة أطلقها جمال / وإحنا أممنا القنال

ومن اشهر أغانيه الوطنية؛ إحنا الشعب، بلدي، بالأحضان، المسؤولية، يا أهلاً بالمعارك، صورة، وبعيْد النكسة، أغنية "أحاف بسماها" التي كان يحرص على أدائها في بداية كل حفل تكريساً للتبرّع للمجهود الحربي. وتسنّى لنا أيضاً، قبل أن تباشر سينما جمال عرضها السينمائي، أن نشاهد بعض هذه الأغنيات مثل حكاية شعب حيث عبد الحليم حاملاً معولاً، مفتخراً بتدشين بناء السد العالي، ووطني الأكبر، والجيل الصاعد مع مجموعة من الفنانين كعبد الوهاب وشادية ونجاة الصغيرة وصباح ووردة وفايزة أحمد وفاديا كامل .

اعتاد العندليب الأسمر أن يقدّم جديده الغنائي من خلال أفلامه التي كانت عادة تحوي أربع أغنيات على الأقل، واحياء الحفلات في العديد من المناسبات كما في عيد شمّ النسيم، وهو تقليد مصري قديم يُقام بحلول فصل الربيع حيث يخرج الناس الى الحدائق العامة، ويتناولون البيض والبصل الاخضر والفسيخ (السمك المجفف) .

بغتة ، انتقل العندليب من الأغاني العاطفية المبكية غالباً، الى التراث الشعبي، فقدم: أنا كل ما أقول التوبة، على حسبي وداد قلبي، سوّاح، كامل الأوصاف  الخ. فشكّل ذلك طفرة كبيرة على صعيد الكلمات واللحن والأداء. ثم انتقل الى المطوّلات الغنائية كما أم كلثوم، من نوع جانا الهوى، زيّ الهوى، مدّاح القمر، موعود، حاول تفتكرني، منين نبتدي الحكاية.  فزاده ذلك نجاحاً في أوساط مريديه الجدد والقدامى .

من جهتي، لم أستسغ عبد الحليم الجديد، وبقيت مخلصاً لقديمه من نوعية بعد أيه، وفي يوم من الأيام، ونعم يا حبيبي نعم، فوق الشوك، توبة، أهواك، وظلموه. وحتى الآن، ما تزال باكورته صافيني مرّة، تأليف سمير محجوب تطربني كثيراً .

إلّا أن العندليب كان مريضاً جداً، فوافته المنية في آخر آذار عام 1977. فبكاه الملايين، وشهدت وفاته حالات انتحار. وضاهت جنازته، جنازتي الزعيم جمال عبد الناصر، وكوكب الشرق أم كلثوم .