كلمة سيادة المطران يوسف متى، بمناسبة الأعياد الميلادية المجيدة

إلى الإخوة كهنة الأبرشيّة الأحبّاء، جميع الرهبان والراهبات، والمكرّسين العاملين في الأبرشية، وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيح يسوع، وعموم الإخوة والأخوات في هذا الجليل المقدّس.

كلمة سيادة المطران يوسف متى، بمناسبة الأعياد الميلادية المجيدة

نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبینا، والرَّبِّ یسوع المسیح (1 كور: 1).

"ها إن العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل". (اشعياء 7: 14).

 

هذا ما تنبّأ به أشعياء قبل أكثر من سبعمائة عام من الميلاد، ثم عاد وكتب "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور". (أشعياء 9: 2). هذا هو ميلاد المسيح، أنه ميلاد النور الذي يشرق في ظلمة الخوف وعدم اليقين. إنه البداية لتكوين آخر جديد.

في ظلمة هذا العصر الذي نعيش فيه، ومع هذا الكمّ الكبير من الصعوبات التي تطال الحياة الإنسانية، تمامًا كما كان الشعب السالك في الظلمة قديمًا، يأتينا المسيح في نهاية كل سنة، ليذكّرنا بوعده الخلاصي: "لا تخافوا أنا معكم" (مت 28/ 20)، "أنا نور العالم، من يتبعني لا يمشي في الظلام" (يو 8/ 12). فالمسيح في ميلاده يدعونا إلى العودة إليه، بعد أن كسر حاجز العداوة بيننا وبين الآب السماوي، فهل نرغب فعلا بالعودة الى ما كنّا عليه قبلا، تاركين وراءنا كل الآلهة الأخرى، تائبين عائدين كالابن الشاطر إلى السلام والأمان داخل الأحضان الأبوية؟

من هنا نجد أن الظلمة التي تحدث عنها أشعياء هي ظلمة الخطيئة. ظلمة روحيه جاءت نتيجة شرور شعب إسرائيل الذي تمرّد وزاغ عن طريق الله وناموسه، أصبح شعبًا سالكًا في الظلمة فاقدًا كل معاني الأمل والرجاء وحتى معنى الحياة ذاتها. لذلك وصفهم النبي بالجالسين "في أرض ظلال الموت".

 

لكن أشعياء تنبّأ وسط هذه الظلمة الروحية بنورٍ سيشرق على هذا الشعب ويملك عليه إلى الأبد، ويخلّصه من خطاياه، ويعيد إليه الرجاء والسلام الحقيقيّ، ويضيء قلب كل من يقبل هذا النور. يسترسل أشعياء بقوله واصفًا ميلاد السيد المسيح وملكوته: "لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام. لنمو رئاسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبّتها ويعضدها بالحقّ والبرّ من الآن وإلى الأبد. هذا كله لأن غيرة ربّ الجنود تصنع هذا" (أشعياء 9: 6- 7)، كما يتنبّأ بصفات الملك الذي سيولد ويملك إلى الأبد ويقهر ظلمة هذا العالم.

في هدوء الليل وبرد الصحراء تحققت نبوءة أشعياء، ونبتَ فرعٌ جديد من أصل يسّى، فولدت الحياة الجديدة بالمسيح في بيت لحم، ومجد الربّ أضاء حول الرعاة الذين بُشّروا من ملاك الربّ: "إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الربّ" (لو2: 11)، وترنّمت الملائكة فيه: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة" (لو 2: 14).

وفي وصف النور الإلهي، كتب يوحنا الإنجيلي ذاكرًا المسيح: "كان إنسان مرسل من الله اسمه يوحنا. هذا جاء للشهادة ليشهد للنور، لكي يؤمن الكل بواسطته. لم يكن هو النور، بل ليشهد للنور. كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم. كان في العالم، وكوّن العالم به، ولم يعرفه العالم. إلى خاصّته جاء، وخاصّته لم تقبله" (يو1: 6-11). وأضاف قائلا: "فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه". (يو1: 4- 5).

نعم تأكّدَت نبوءة أشعياء في كتاب يوحنا. إنه مصدر الحياة التي تنير قلوب الناس وتقهر ظلمة الخطيئة التي تؤدّي إلى الموت.

أيها الأحبّاء،

لنا دعوة جديدة من لدن الربّ يسوع، لنُـقبِل إلى النور من جديد، بعد مسيرة مؤلمة شهدنا خلالها مرارة قوية، وفقدان أرواح أعزاء لنا، وضبابية في تعاملنا مع أوجه الحياة الاجتماعية، الاقتصادية، التربوية، والروحية.

ميلاد المسيح يدعونا لتجديد الثقة بهذا الذي أحبَّ الإنسان حتى النهاية، باذلا نفسه عنا جميعًا. فلا نكن، أيها الأخوة والأخوات، كالشعب السالك في الظلمة، الذي قسّى العالم قلبه وأغلق آذانه، ورفض المسيح الذي "أتى إلى خاصّته وخاصّته لم تقبله".

أحبّائي،

 في وسط هذا العالم الذي نعيش فيه، يأتينا ميلاد المسيح ومجيئه إلى أرضنا ليعطينا الرجاء والأمل، وينتشلنا من وادي ظل الموت، ويخلّصنا من خطايانا، ويبعد عنا شبح الخوف، وينير قلوبنا بالإيمان، ويمنحنا حياة أبدية، وسلامًا لا يستطيع العالم أن يعطيه.

أيها الأحبّاء،

علينا أن نـقبَل هذا النور ونختبره عندما نقبَل المسيح في قلوبنا مخلصًا لنا وملكًا على حياتنا، ونسلك كمشيئته حتى نكون أبناء النور كما قال يسوع: "النور معكم زمانًا قليلًا بعد، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام. والذي يسير في الظلام لا يعلم إلى أين يذهب. ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور" (يو 12: 35- 36)، وهنا يشجّعنا السيّد المسيح على السير في النور فنسلك ونحيا فيه، هو الطريق والحق والحياة، وهذا يجعل منا أنوارًا تعكس نور المسيح ومحبّته للمجتمع الذي نعيش فيه، "هكذا فليضيء نوركم قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات". (متى 5: 16).

أختم بعبارة ميلادية للقدّيسة الأم تريزا: "إنكَ تعيّد ميلاد المسيح في كل مرّة تَدَع محبة الله تتدفق للآخرين من خلالك. فدعونا ونحن نعيّد هذا العيد، ان نعكس نور وحب المسيح لجميع من حولنا". المسيح وُلِدَ فمجدّوه.

 

دار المطرانية – حيفا

٢١/١٢/٢٠٢١

 

+ المطران د.  يوسف متى

رئيس اساقفة عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل للروم الملكيين الكاثوليك.