رحيل شخصية معطاءة - الياس جبور جبور

الكاتب : القاضي بروفيسور أحمد الناطور

رحيل شخصية معطاءة - الياس جبور جبور

الحمد لله على كل حالٍ ومآل. آهٍ أيها الزمان! من ذا الذي يعي منك دلالة، وأنت مجمعُ أقدار؟! في يومٍ فردٍ منك، تجتمعُ ألوان الخلق جميعًا، مع أنّ لكل حيٍ عليها سرًّا في روح. إن المرء لا يعلق بعمُره إلاّ بمقدار النور الذي يشع فيه، وما سكينة القلب، إلا محصلة تحرّره من آثار فعله. وكذا شأنها في السماء...  إنما رحمته في غياب وزرٍ يعتريه بعد رحيل، ولمّا كانت الأفعال في الدنيا تُنسب إلى فاعلها، فإنه بعد رحيله يُنسب هو إليها. وحين يحين البين، يُفرَغ المرءُ من كل إرادة، كما تبطل في الكلام المعاني، وتفقد الذوقَ المباني. يومها يتخلّى الطّيفُ عن حيّزه، ليملأ الروحُ المكان. عندها، تفرّ الأيّام إلى الأمس، فتصبح أضيعَ من أمس، أو من سراجٍ في شمس.

يومَ سطا المغولُ على عيون الماء، وصادروا حتى الهواء، هبطت على رؤوس الخلق السّماء. إذ ذاك غابت الشمس في عزّ الظهيرة، واختلط المرعيُّ بالهَمَل.  صارت الناس تعيش خارج السياق، وتأكل خارج السياق،  وتموت خارج السياق...

 يومها انقطع بالناس حبلُ الوريد، وغار الزفير في غوْر الشهيق، حتى صار البُعدُ عينًا في أفُق. يومها كان القابض على حفنة ترابٍ من أرضٍ بلاده، القابض على بؤرةِ جمر، وكان الإصلاح بين الناس سلعة مهرّبة، لا يقوى عليها إلاّ فرسان البأس الشديد، من فصيلة الصناديد بقيادتك يا أبا جبور.

كنت تجوب القرى ممتطيًا جناح الليل، لتؤدي فروض الله في إصلاح ذات البين. قمت تحكي عن حبيبة قلبك شفاعمرو، والدمع يسبق في مآقيك الكلام - تسرد مناقبها بلهفة، من يستذكر بالخير أمَه وأباه. ولمّا التقينا في لجنة الوفاق، كنتَ فيها شعاعًا من شمس، وسيم الخلْقِ راقي الخُلُق.

أمّا أنا فكلما وورِيَ ذو متربةٍ ثراه، أراني مطرقًا، تزاحمني الأفكار، فأعجب لحالي، وأنا أُديِر ذاكرتي ببالغ ما تحمل وتحتمل، أفري المكان باستحضار الزمان، كأني أجمع أشلاء نفسي بعد طول شتات، لعلها تستذكر الفائت، لحظةً أو لحظتين، على حساب الحقيقة.

ولمّا كانت الدنيا وعاءً ملؤه العمل، لكلٍ منّا نصيبٌ من نسجه ونسيجه، فإنّ صاحبه سيبقى سيرةً من عطرٍ مكْنُون، ترويها الضمائر جيلاً بعد جيل، لينتصبَ في وعي الزمان، قائمًا من نور، قائمًا من نور، وهكذا أنت يا أبا جبّور.