ذكرى رحيل الكاتب والسياسي الفلسطيني إميل حبيبي.. رجل خسرته السياسة فهل ربحه الأدب؟

الكاتب : بقلم: أحمد جدوال

القيامة – ولد إميل حبيبي في حيفا، في 29 آب 1922، لعائلة بروتستانتية. والده شكري من شفاعمرو. إميل أديب وصحافي فلسطيني مرموق، توفي الناصرة، في 2 أيار 1996، ودُفن، بناءً على طلبه، في حيفا، بعد أن كان قد أوصى بأن تكتب على قبره عبارة "باق في حيفا". لم يلق إميل (أبو سلام) حقه بعد وفاته لأنه لم يبق له حزب يحيي ذكراه، أو جمعية تعمل على تخليد اسمه.

ذكرى رحيل الكاتب والسياسي الفلسطيني إميل حبيبي.. رجل خسرته السياسة فهل ربحه الأدب؟

نستحضر شخصا كان قلقا على الدوام إلا أنه كان دائما شجاعا في عرض آرائه ومواقفه، وشجاعا حتى المغامرة في الاتجاهين، اتجاه الخطأ والصواب معا، وهي صفة لازمته حتى وهو في موقع المسؤولية السياسية ومنذ وقت مبكر حتى آخر لحظة من حياته… من يعرف اميل حبيبي جيدا، من يعرفه في كتاباته وسيرته السياسية والأدبية وتاريخ نضاله السياسي، باستطاعته أن يستنتج من دون عناء انه كان إنسانا قلقا على الدوام، وكان بقلقه الصاخب يحاول ضمن شروطه العامة مقاومة الوقائع الصعبة، في مجمل كتبه وحتى في اليومي من مقالاته السياسية ومواقفه الفكرية والادبية وفي سلوكه كسياسي وكمثقف ملتزم، هو مفكر بامتياز. الفكر عنده هو ممارسة وحس نقدي واستخلاصات من تجارب ورؤى مستقبلية. لم ينشر أبحاثا أكاديمية ولم يصدر كتبا تعنى بهذه المواضيع، لكنه قدم أراء جريئة واقتراحات تناولت تجديد العمل السياسي وتجديد فكره وبرنامجه المستقبلي. هو إذا وبهذا المعنى رجل سياسة بامتياز. لكنه في الوقت ذاته وبسبب من إدراكه العميق لمعنى السياسة، فهو صاحب فكر. يمتلك ثقافة واسعة. ويوسع ويطور على الدوام معارفه في شتى الميادين. كتب في السياسة كما أبدع في الأدب، وقد كتب أعمالا على الرغم من قلتها إلا أنها أضافت جديدا للتجربة الروائية عربيا كتب “سداسية الأيام الستة” وتحكي عن هزيمة حزيران 67، و”الوقائع الغريبة في احتفاء سعيد أبي النحس المتشائل”، تؤرخ هذه الرواية لتفاعلات حرب 48.(النحس الأول حسب تعبير حبيبي) في العرب الباقية داخل فلسطين المحتلة..ثم لتفاعلات حرب 67 ..(النحس الثاني). بين العرب الباقية وعرب الأراضي العربية المحتلة حديثا. اختيار إميل حبيبي لهذه الفترة ليس مصادفة روائية. إنه تاريخ ضياع فلسطين العربية، ثم استكمال هذا الضياع. تاريخ تهجير أكثرية الشعب الفلسطيني. ثم احتلال إسرائيل كامل الأراضي الفلسطينية وأكثر. تاريخ قيام الدولة الإسرائيلية، ثم توسيع حدودها القابلة للتوسع. ومابين التاريخين (النحسين) حكايات وحكايات عن التشرد والتسلل ثم الطرد، فالتسلل مجددا، فالطرد مجددا، فالتسلل، فالطرد، حتى يومنا هذا.

 في كتابات اميل حبيبي السياسية والفكرية والأدبية، هناك نوع من التجاور والتداخل فيما بينها ويكاد القارئ لا يرى الفرق بين ما يقرأه في “سداسية الأيام الستة” وما يقرأه في تحفته الروائية البديعة. “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل”، وما يقرأه في روايتيه “خطية” و”لكع بن لكع”، وبين ما يقرأه في مقالاته السياسية الساخرة.

كان اميل حبيبي مناضلا شيوعيا في فترة كان فيها جدانوف علما ومرجعا ذهبيا، وكانت الأحكام الأدبية فيها حافلة بالالتزام بالبطل الايجابي. التفاؤل. التقدم. لكن اميل وضع كل هذا جانبا وكتب كما أراد. بل انه نحى البطل الايجابي ووضع مكانه بطلا سلبيا بامتياز. وخلق فضاء الضحك الأسود والقهقهة المنتحبة والكيان السلبي واللغة العابثة ولعبة الأقنعة وجعل من العمل الأدبي سيرة ذاتية ومن السيرة الذاتية سيرة جماعية. ترجم إميل حبيبي المعاش اليومي في تجربة أدبية. وكان عليه وهو المطارد من أرضه ووطنه أن يترجم تجربة مأساوية بالغة الفرادة ولم تتم هذه الترجمة بين مستويين مختلفين في النوعية. كما لو كان على العمل الأدبي أن يستقدم إليه واقعا خارجه. إنما تمت العملية في تجربة نوعية لا ينفصل فيها معنى الكتابة عن دلالة الحياة. فلقد كان على العربي الفلسطيني أن يوثر الصمت كي لا يطرد خارج وطنه المصادر. وكان عليه وفي اللحظة ذاتها أن يبرهن أنه موجود ولا يمكن القضاء عليه. وبغية إنجاز هذا الهدف، لاذ اميل بتراثه ولغته وتاريخه العربي. وكان عليه وهو المضطهد الذي لا يستطيع أن يفصح عن هويته القومية. أن يقصد إلى هوية أخرى لصيقة بالأولى ومعبرة عنها وكانت تلك الهوية هي الهوية الثقافية الأدبية التي تنعكس في اللغة وفي التاريخ الأدبي الذي استجلب هذه اللغة. وقد تمثل اميل هذه الهوية تمثلا كاملا حتى غدا وجوده الأدبي انعكاسا لهويته الثقافية في شرط يهدد يوميا هذه الهوية بالخنق والمصادرة.

 على امتداد مساره السياسي والأدبي، كان اميل حبيبي يحمل كما كان يقول دائما، بطيختين: بطيخة السياسة وبطيخة الأدب. وحين اختار هذا الحمل المزدوج قرر وفي ظروف تاريخية معينة أن يحافظ عليه ويرعاه وكان يتقن فن هذا الحمل المركب إلى أن أعياه هذا الحمل فترك بطيخة السياسة وانسحب من البرلمان والحزب غاضبا ومغضوبا عليه، واحتفظ ببطيخة الأدب. ليس الأدب كمهنة، بل كميدان نشاط إبداعي ومعرفي وثقافي وسياسي في آن. إذ شعر بأنه سيكون بمثل هذا الاختيار أكثر انسجاما وأكثر قدرة على العطاء، غير انه ومنذ الوهلة الأولى أحس بحالة اغتراب سرعان ما عبر عنها في عمله الأدبي “لكع بن لكع” في محاولة لإعادة سيرة حياته الحافلة بالهواجس والطموحات المصادرة.

رحل اميل حبيبي، ولكن من يستطيع أن يجعل المتشائل، هذا المزيج من الهواجس والكآبة والضحك الشاحب، يرحل عن نفوسنا وشهواتنا الإبداعية.